أثر اللغة ومتى يكون الرجوع إليها
وإلا فالذي لا يتعلم اللغة العربية لا يفهم ولا يفقه العلم، وهذا لا شك فيه، ولكن متى نرجع إلى اللغة كأساس في معرفة الحق والصواب؟ أما تعلم اللغة باعتبارها وسيلة فهذا لا شك أنه من العلم النافع.ونبين هذا بمثال: لو أن هناك عالماً كبيراً من علماء اللغة وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ص:75] وقوله: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64] فهل يؤمن بها كما جاءت، أو يقول: نرجع إلى اللغة، ونرى ما قالته اللغة في معنى اليد؟ والصواب أن نرجع إلى ما قاله السلف الصالح، وكيف فهموا هذه الآية، وكيف علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه معاني هذه الآيات؟ والقاعدة في هذا الإيمان بما صح في القرآن والسنة فلو قال شخص: نؤولها بالقدرة أو بالنعمة؛ لأن العرب تطلق اليد على القدرة والنعمة، ويأتي لك بشواهد وأشعار، نقول له: نعم، نحن لا نشك أن العرب تطلق اليد على القوة والقدرة والنعمة، لكنها تطلق أيضاً على اليد الحقيقية بالنسبة للإنسان، والتي هي صفة بالنسبة لله تبارك وتعالى حقيقةً، فنحن كيف نميز بين هذه المعاني الأربعة والخمسة والستة؟ هل نرجع إلى اللغة في هذا؟ الجواب: لا. لأننا لا نحتاج إلى اللغة في مثل هذا الأمر، ولا يعني هذا أن لغة العرب لا تدل على تلك المعاني، والله تعالى يقول: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، ويقول: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ص:75] فهل يصح عندكم في اللغة تثنية المصدر؟ فتثنية كلمة القدرة لا تصح؛ لأن المصدر لا يثنى ولا يجمع، ولذا تجد في كتب الفقه أن العلماء اللغويون ينتقدون قول الفقهاء: كتاب البيوع؛ لأن الصحيح أن يقال: كتاب البيع؛ لأن كلمة البيع مصدر يشمل جميع البيوع، ولكن خرجها بعضهم بأن هذا باعتبار أنواعه لا المصدر في ذاته، فالفقيه يريد أن يقول: كتاب البيع الحلال، وبيع الغرر، وبيع الجهالة وبيع كذا، فهو باعتبار هذه الإضافة يجمع، فيجوز أن تقول: البيوع، وإلا فإن المصدر لا يثنى ولا يجمع، وصفة اليد في القرآن جاءت مثناة، إذاً: هي ليست مصدراً، فلا يصح أن يقال: معناها القدرة وغيرها.وكذلك في حديث النزول يقولون: ينزل الله، أي: رحمته وأمره، وفي الحديث: ( ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل ) وهو حديث صحيح متواتر، فنحن نقول: نحن لا نحتاج إلى هذا التأويل، وإن كان هذا التأويل قد يرد في لغة العرب، وقد يحل المضاف محل المضاف إليه أو ما أشبه ذلك. ثم نقول: ثانياً: لا يصح هذا؛ لأننا عقلاً نقول: إن رحمة الله تنزل كل حين، وأمر الله ينزل كل حين، لكن هو بذاته تبارك وتعالى لا ينزل في الثلث الأخير، ففرق بين هذا وبين هذا، فنحن نلزمهم حتى من جهة اللغة؛ لأنه -والحمد لله- لا تعارض بين الحق الذي جاء في الكتاب والسنة وبين اللغة، لكن نحن نقول: إننا نرجع في مسألة الإيمان إلى ما جاء جبريل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( أخبرني عن الإيمان ) فأجاب صلى الله عليه وسلم: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) وهذا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان هو عن السؤال بـ(ما)، فهو جواب عن الماهية في قواعد المنطق، والماهية مشتقة من (ما هي) أو من (ما هو)، فماهية الإيمان أو حقيقته هي المسئول عنها، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، فيأتي القاضي أبو بكر بن الباقلاني ويقول: (والإيمان هو التصديق؛ لأن العرب لا تستعمله إلا كذلك، ويقول: فلان يؤمن بالبعث أي يصدق به) وذكر أمثلة ليست من كلام العرب، بل من كلام الناس، ونحن نقول له: يا شيخ الأشعرية لا نحتاج إلى اللغة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، فحيثما أردت أن تعرف حقيقته في العقيدة فقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أي: مع اقترانه بالإسلام، ولا تقل: الإيمان: هو التصديق بدلالة اللغة؛ لأن العرب تقول كذا، والناس يقولون كذا، بل من العجب أن في فتح الباري في شرح هذا الحديث الذي في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه تجد أنهم يقولون: لماذا عدل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعنى اللغوي إلى غيره؟وهذا التساؤل عجيب منهم، فمن الذي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصدر في المسجد للناس ويأتيه السائلون فيسألونه عن لغة العرب، وماذا قال امرؤ القيس ، وماذا قال فلان؟ وما معنى كذا في لغة العرب؟ فالناس إنما يسألونه صلى الله عليه وسلم عن الدين الذي جاء به، ويجيبهم بالدين، ولهذا لما ذهب الرجل قال: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فالكلام إنما هو عن الدين، فلماذا تذهبون إلى اللغة؟ لكن لو جاء رجل إلى أبي عبيدة أو إلى الأصمعي أو إلى الخليل بن أحمد وقال له ما الإيمان؟ فقال: التصديق، فنعم؛ لأنه يسأل عن المعنى في اللغة؟ لأن هؤلاء أئمة لغة، والذي يأتيهم إنما يسألهم عن اللغة؛ لأنه يرجع في كل فن إلى أهله، ولكن الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الكلام الموحى إليه من الله.